مناسبة القصيدة : يا دار مية بالعلياء فالسند

اعتبر التبريزي قصيدة النابغة الدالية الاعتذارية من القصائد العشر وهي المعلّقات المذهبات. ومطلع هذه القصيدة:

يا دار ميَّة بالعلياء فالسَّنَدِ أقْوَتْ وطال عليها سالِفُ الأبد

ومن أهم جوانب هذه القصيدة: ذكر الديار الدارسة، الانتقال إلى وصف الناقة وتشبيهها في قوّتها ونشاطها بالثور الوحشي، وصف الصراع بين الثور والكلاب، التخلص من وصف الناقة إلى مدح النعمان، الاعتذار والاجتهاد في تبرئة نفسه مما اتهم به.

وفي شعر النابغة بعامة، وفي غسّانياته كما في اعتذارياته، ومنها قصيدته الدالية التي أنزلها التبريزي منزلة المعلّقات.. في جميع ذلك تتجلّى صورة واحدة لشاعرية متكاملة ذات خصائص بيّنة واضحة المعالم من أهمها البعد عن التكلف ودقة التعبير وحسن الديباجة ورونقها والعناية بالكنايات والاستدارات التشبيهية فضلاً عن الاستهلالات الجيدة وحسن التخلص إلى الأغراض الأساسية كالمدح والاعتذار.

ويبدو أن النابغة لم يطب له المقام طويلاً بين غساسنة الشام، أو أنه هيّجه حنينُه إلى العراق. وكان الزمن أسرع إلى برْء النابغة من خوفه وألمه من النعمان، وإلى إذابة أحقاد النعمان على النابغة، مما زرعه في نفسه الحسَّاد والوشاة. ولذلك يعود النابغة إلى قصور الحيرة، تسبقه اعتذاريات رائعة للملك، كان من أفضلها القصيدة الدّاليّة. ولقد فتحت هذه القصيدة باب الحيرة وقلب ملكها أمام الشاعر الطريد مرة أخرى، وعاد الصّفاء إلى علاقتهما.

والقصيدة تتردّد ما بين الوقوف على الأطلال عبر نغم جديد حزين، إلى وصف ناقته وتشبيهها بالثّور، ومناظر من الصّيد والقنص، والعراك ما بين الثور والكلاب، إلى أن بلغ موضوعه الأساسي، فيقدّم نفسه مرة أخرى للملك، مُبْرءاً ومبرراً من أخطائه، معتذراً عن الجفوة السابقة، لاجئاً أخيراً إلى نوع من المديح المغلّف بالحب والصداقة، وتكرار طلب التصافي والإخلاص ما بين ندّيْن.
ويمتزج النفس القصصي بالسيّالة الشعريّة، حتى يبدو ثمة انسجام داخلي، في بنية القصيدة. وفي لوحة وقوفه أمام الأطلال عرض لخلاصة قصة حب، كان ذروتها ذلك البيت الشّهير:

أمست خلاءاً وأمسى أهلُها احتملُوا أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ

وقد تضمن كذلك إشارة إلى أسطورة لبد، التي توحي بجبروت الزمان واندراس الذكريات، ومضيّ الأحبة، تحت كرّ أيامه. وينتقل الشاعر إلى وصف منظر صيد، بعد أن يشبه ناقته بالثور، ثم كيف همت الكلاب بالصيد. ويستخدم الشاعر صوراً واقعية بارعة في وصف التَّضاد والصراع، وألوان الهجوم والطعن. ويرصد لكرم الملك وشجاعته بصور مضخَّمة، مفَخَّمة، اللّفظ والإيحاء والتشابيه. حتى يصل إلى قصة أخرى، هي قصة زرقاء اليمامة، وكأنه في تشبيه صواب الرؤية عند الملك بزرقاء اليمامة، يطلب منه أن يحكم في موضوعه بنفس النظرة والروية.

ويلجأ الشاعر إلى تضخيم خوفه من الملك، ويرجوه التمهّل في أمره، ويشبّه جبروته وكرمه بالفرات. إلى أن يطلب المعذرة والغفران، بأسلوب مليء الإيقاع، فَخْمٍ مَحْكم التركيب، لا بد أنه كان من أهم عوامل شهرة الشاعر، وكونه شاعر بلاط من الطراز الأول.

أنظر في ذلك: ابن الخطيب التبريزي، شرح المعلقات العشر المذهبات، تحقيق وتعليق د. عمر فاروق الطباع، بيروت: دار الأرقم، د. ت، ص325-326. مطاع صفدي وإيليا حاوي، موسوعة الشعر العربي: الشعر الجاهلي، إشراف د. خليل حاوي، تحقيق وتصحيح أحمد قدامة، بيروت: شركة خياط، 1974، جـ2، ص247-248.



الى صفحة القصيدة »»


جميع الحقوق محفوظة © 2008-2020 - القرية الألكترونية في أبو ظبي