مناسبة القصيدة : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

تكاد كلمة العلماء بالشعر تتفق، في ما يتعلق بمنزلة المعلقة، على أن أفضل تراث أدبي ورثه العرب من شعر الجاهلية "معلقة امرئ القيس"، ويعدون ابتداءها أفضل ابتداء من مطالع الشعر العربي. وقد بلغت من الشهرة في عالم الأدب والشعر، منزلة ليست لغيرها، حتى جعلت مثلاً أعلى في الجودة، وحتى ضرب بها المثل في الحسن والشهرة، فقيل: "أشهر من قفا نبك!" "وأحسن من قفا نبك!".

وما زالت هذه المعلقة- ولن تزال- معيناً يستمد منه الأدب العربي ثروة جديدة، وركيناً يقيم عليه صروح مجده في الماضي والحاضر. وهي أشبه شيء بالخزائن المدفونة المشحونة بصنوف من الجواهر والأعلاق النفيسة، كلما ازداد المنقبون فيها بحثاً رأوا مما فيها من الذخائر الرائقة، والآيات الرائعة، ما لم يروه من قبل. فلا يكاد ينفد ما فيها من أنواع الحسن والروعة!. وحسبك دليلاً ناصعاً، وبرهاناً قاطعاً على هذا، أنك لا تجد كتاباً في اللغة والأدب (على اختلاف أنواعهما وتعدد أشكالهما) إلا ولامرئ القيس فيه أبيات يتمثل بها، ويحتج بها، ويشار إلى مواطن الجمال الباهر، والفن الساحر فيها. فمعلقة امرئ القيس وشعره كله، عماد قام عليه الأدب العربي في القديم والحديث، ومثال احتذاه الأدباء في كل جيل. ومهما تبدل الأدب بتبدل الزمان وأهله، وتغير بتغير حياتهم الاجتماعية والعقلية، فإن في شعر امرئ القيس ما يصلح أن يكون مثلاً أعلى في كل جيل وطور، وفي كل بيئة.

وذهب بعض العلماء، حول سبب نظم المعلقة، إلى أن امرأ القيس كان يعشق عنيزة وأخذ ثيابها يوم الغدير مع صواحباتها، ثم عقر لهن ناقته ثم ركب معها ناقتها فدخل عليها الهودج، كما تقدم. ثم نظم المعلقة وذكر هذه القصة فيها. وإذا صح أن هذا وحده هو السبب لنظمها، فقد يؤخذ عليه عدم وحدة الموضوع في القصيدة، لأنه ذكر فيها وصف الجواد والليل والبرق والسحاب. ويجوز أن يكون يوم الغدير سبباً من جملة الأسباب، وأن الشاعر كان مولعاً بالشعر، فاستهل هذه القصيدة بالغزل، وثنى فيها بقصة الغدير لولعه بالنساء والتشبيب بهن، ثم عززها بوصف الجواد لأن ركوب الخيل في المنزلة الثانية عنده في اللذاذة. واستطرد إلى وصف الصيد والطبيعة، جرياً على سنة الجاهلية في عدم الوحدة واشتمال القصيدة الواحدة على أغراض متعددة. ومما لا ريب فيه، أن هذه القصيدة وليدة الشباب، وربيبة الصبا: نظمها الشاعر حين لم يكن في قلبه ما يشغله إلا الصبوة والطموح في سبيل الشهوة، قبل أن تملأ المصائب قلبه، وتنيخ عليه بكلكلها. ولذلك يرى الباحث فيها ماء الشباب يترقرق في تضاعيف كلماتها، ونضرة النعيم تتراءى في أسرتها.

أما العوامل التي أثرت في نفس الشاعر، واقتنص معانيه وأخيلته منها في هذه القصيدة، وكان لها الأثر البين فيها، فهي: لواعج الحب التي تعتلج في صدره لعنيزة، وفاطم، وأم الرباب، وغيرها؛ مشاهدة المنازل التي كانت فيها أحبابه ثم رحلوا عنها، والصحارى التي اجتابها، والمياه التي وردها، والأودية التي قطعها، والجبال والأماكن التي شاهد نزول المطر عليها، وشام البرق من جهتها، والمطر الذي رأى آثاره في بعضها؛ وقد ذكرها في شعره كالدخول وحومل وتوضح والمقراة ودارة جلجل ووجرة وضارج والعذيب وقطن ويذبل والقنان وثبير وصحراء الغبيط وما شاكل ذلك؛ الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها الشاعر حين نظمها: فهي تمثل لنا نوعاً من مجانته، وتعيهره، وتذلـله لمن يحب. ونوعاً آخر من اجتيابه الصحارى والأودية، ومطاردة الوحش، واتخاذ الأطعمة منه في الفلوات. ونوعاً ثالثاً من خدمة أصحابه، وحمله الماء على ظهره لهم، ونحو ذلك مما يدل أن حياته حياة الصعاليك والشذاذ والخلعاء.

وقد اشتملت هذه المعلقة على أغراض متنوعة يمكن ردها إلى ثلاثة أمور: الأول: الغزل والتشبب: ويندرج فيه بكاء الديار، والوقوف فيها، وعقر المطية للعذارى، ودخول خدر عنيزة، وحديثه معها ومع فاطم، وتشبيه المرأة بأنواع من المشبهات، ووصف الليل والشكوى من طوله. الثاني: وصف الخيل: ويندرج فيه وصف الوحش، وصيده والأودية، ويتبعها حديثه مع الذئب. الثالث: وصف الطبيعة: ويندرج فيه وصف الجبال والصحارى، والمطر والسيل، وآثاره. وقد أطال في الأول لأنه مولع بالمرأة وهي غاية المتمنى والمشتهى عنده. وكذلك أطال في الثاني لأن ركوب الجواد عنده لذة تقارب أو تقارن لذة المرأة يدلك على ذلك قوله:

كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال!?

بل قدم في هذا البيت لذة الجواد على تبطن الكاعب. ولم يطل في الثالث، لأنه أدنى منزلة في نفس الشاعر من سابقيه. وإذا أمعن الباحث النظر في هذه المعلقة، ثم عرضها على محك النقد والتمحيص، يتبين له فيها أشياء هي في الدرجة القصوى من البلاغة، وأشياء يؤخذ بها صاحبها إن كانت سالمة من عبث الرواة وتحريف النساخ. والغالب على الظن أنها لم تسلم لكثرة ما فيها من الروايات المضطربة. أما محاسنها، وهي أكثر ما فيها، وهي التي جعلها مضرباً للمثل في الشهرة حتى قيل "أشهر من قفا نبك!" فهي: إن أسلوب الشاعر يسهل حيث تطلب السهولة، ويشتد أسره حيث يقتضي المقام ذلك. فكلامه في الغزل رقيق لطيف عذب، يتلاءم مع المتغزل بها رقة ورشاقة، كأنما يتخيره من لؤلؤ رطب.

وكلامه في وصف الجواد والوادي والصيد وما شاكل ذلك متين جزل، كأنما ينحته من صخر صلد: فأسلوبه أسلوب ساحر ماهر لبق. إنه مجود في التشبيه، بارع فيه. وأكثر ما يكون لديه المشبه به محسوساً لأنه أقرب إلى التناول وأرسخ في النفوس. ولا يخرج المشبه به عما تتضمنه البيئة البدوية، والحياة الفطرية: فهو إذا أراد أن يشبه أعضاء المرأة بشيء يشعر بالجمال شبهها بالمهاة في عينها، وبالظبي في جيده وببيضة النعام في لونها، وشبه أناملها بالأساريع، وليس في المحيط البدوي مثل أعلى للجمال في هذه الأنواع إلا هذه الأشياء. وإذا أراد أن يشبه الجواد، شبهه بالجلمود يحطه السيل من عل، وبخذروف الوليد في سرعته، وشبه ظهره بمداك العروس، وشبه عنقه المضرج بالدماء، بالشيب المخضب بالحناء. وإذا أراد أن يشبه البرق شبه خفقانه بحركة اليد، وضوءه بمصباح يهان السليط فيه. وهكذا شأنه في كل تشبيه.

وهذه التشبيهات توضح المعنى المقود توضيحاً تاماً. وليس في البادية شيء أدل على المراد، وأبين للغرض منها؛ وهي تمثل المشبه تمثيلاً صحيحاً تاماً. أنه مجود في الاستعارات، محسن لتخير اللطيف منها؛ فإنه لما أراد أن يعبر عن طول الليل، شبهه بشيء له صلب وكلكل وأعجاز. واستعار السهم للعين، ليدل على شدة تأثيره في الفؤاد. واستعار الصيد للقلوب، في قوله "وهر تصيد قلوب الرجال" ليدل على شدة استيلائها على القلوب. أنه بارع في تخير الكنايات: فإنه لما أراد أن يصف المرأة بطيب الرائحة وطراوة الجسم، كنى عن ذلك بأن فتيت المسك فوق فراشها، وأنها نؤوم الضحى، وأنها لا تلبس الفضل للامتهان. وكنى عن اقتلاع السيل الشجر بقوله "يكب على الأذقان دوح الكنهبل" وكنى عن تباهي محبوبته في الجمال، وعن حداثة سنها بقوله:

إلى مثلها يرنو الحليم صبابة إذا ما اسبكرت بين درع ومجول

وكنى عن ارتفاع موضع بقوله"نيافاً تزل الطير عن قذفاته". إنه ماهر في التصوير فإذا وصف لك شيئاً أحاط بالموصوف من كل ناحية يطلبها تحقق ذلك الموصوف وتفوقه فيها، فقد وصف الجواد من النواحي التي يتطلبها وصفه بالقوة والسرعة، فجعله مقيداً للوحش، سريعاً مطاوعاً لا يتعبه الجري، ولا يفوته الوحش، ووصف ظهره وخاصرتيه وساقيه وجريه، وهذا ما يتطلب وصفه في الجواد من حيث صلوحه للكر والفر وطرد الصيد وزاد على ذلك فوصف لونه وذنبه. ولما عن له السرب وصف لونه واجتماعه ثم تفرقه حتى كأن السامع يراه، وكذلك وصفه السحاب والسيل وآثارهما. أنه بارع في تصوير الخيال أو الحال الواقعة فإنه لما قص دخوله على عنيزة الخدر وخروجه بها أرانا كيف كانت تعفي الأثر بذيلها وكيف هصر بفوديها وكيف كان الغبيط يميل بهما. وأسمعنا لومها إياه وعداءها عليه حتى كأننا نرى ونسمع ذلك حقيقة. وكذلك حديثه في الوادي مع الذئب وتصوير اجتماع المها وافتراقها. فهو مصور بارع يؤثر كلامه العذب في النفوس ما لا تؤثره ريشة المصور. إن ابتداء هذه القصيدة أفضل ابتداء صنعه شاعر لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد. وإنه ختمها بوصف السيل ولم يتعمد جعله خاتمة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات، مع أنها أفضلها، رغبة في إطراح الكلفة وحتى تبقى النفس متعلقة بها طامعة في بقية الكلام.

ومما يؤخذ به في المعلقة: وحدة الموضوع فيها، فإنها جمعت بين الغزل والطرد ووصف الجواد والبرق والسحاب الخ. عدم التلطف في الانتقال من غرض إلى غرض: فبينا هو يتغزل ينتقل إلى وصف نفسه بالدماثة والشجاعة ثم يقفز إلى الوادي فيدور حديثه مع الذئب ثم يطفر إلى وصف الجواد وهكذا شأنه في شعره كله. عدم الترتيب الطبيعي في الغرض الواحد: فهو عندما أراد أن يصف محبوبته وصف خصرها وترائبها ثم انتقل إلى خدها وعينيها ثم نزل إلى جيدها ثم ارتقى إلى شعرها ثم هبط إلى كشحها وساقها ثم ذهب إلى فراشها ثم وصف يديها. وكذلك شأنه في الجواد فإنه وصف خاصرتيه وساقيه ثم انتقل إلى ذنبه ثم وصف ظهره. عدم إحاطته بالموصوف من كل ناحية إحاطة تامة: فلو أكمل وصف المرأة فوصف ثدييها وحديثها وأنفها وأسنانها وما شاكل ذلك لجاءت صورة كاملة، وكذلك لو وصف أذني الجواد وجمجمته وعرفه وحوافره لكانت الصورة تامة. وجود الإقواء في مثل قوله: "كبير أناس في بجاد مزمل". وقوله: "ونصف بالحديد مكبل". ولكن هذه الأمور لا تعد شيئاً في جانب ما فيها من المحاسن والروائع التي فتح بها الباب، ومهد السبيل لمن أتى بعده، والكمال لله وحده.

ومعلقة امرئ القيس، كما رأت ريتا عوض، ذات قيمة أدبية كادت تنفرد بها في التراث الشعري العربي، حتى قال عنها ابن الكلبي: إن أول شعر علّق في الجاهلية شعر امرئ القيس، وجعلها الباقلاني (م 403 هـ) المثال الذي اختاره العرب للشعر والمرجع، يقاس كل ما عداها بها، فقال: "ولمّا اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها وقرنوا بها نظائرها. ثم تراهم يقولون: لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوّف إلى معارضته وتساويه في طريقته". ولذا انتقاها موضوعاً لدراسة متقصِّية يثبت فيها تهافتها، وهي رمز ما اعتدَّ به العرب من شعر، أمام إعجاز اللغة القرآنية التي لا تدانيها ? في رأيه- لغة بشرية في كتابه إعجاز القرآن. وأكَّد ابن عبد ربه (م 328 هـ)افتتان العرب بشعر المعلَّقات فقال: "حتى لقد بلغ من كلف العرب به (الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيَّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلَّقتها على أستار الكعبة، فمنه يقال مذهّبة امرئ القيس ومذهّبة زهير، والمذهّبات السبع. وقد يقال لها المعلّقات".

كذلك وجدت المعلّقة عناية كبيرة من الباحثين المحدثين عرباً ومستعربين كما ذكرنا في مقدّمة هذا البحث، وترجمت مع غيرها من المعلّقات إلى كثير من الّلغات، ووضعت في أبياتها الشروح والتعليقات وكتبت الدراسات، حتى إن المستشرق الإنكليزي آربري قال إن معلّقة امرئ القيس كانت ذات أثر ساحق... على عقول المؤلِّفين اللاحقين وخيالهم... وليس من قبيل المبالغة القول (إن المعلّقة) هي في الوقت نفسه، أشهر قصيدة في الأدب العربي بأسره وأكثر القصائد العربية نيلاً للإكثار وأشدّها تأثيراً".

تتألف المعلَّقة في رواية الأصمعي كما وردت في نسخة الأعلم الشنتمري من سبعة وسبعين بيتاً. وقد بلغت أبيات القصيدة واحداً وثمانين بيتاً في روايات أخرى كالتي شرحها ابن الأنباري وابن النحاس والبطليوسي والزوزني والتبريزي، ووصلت إلى اثنين وتسعين بيتاً في الرواية التي اعتمدها أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب. وقد اختارت هذه الباحثة تحليل رواية الأصمعي في نسخة الأعلم، التي اعتمدها محمد أبو الفضل إبراهيم، محقّق ديوان امرئ القيس، أساساً للطبعة العلمية الموثّقة للديوان. وراجعت الروايات والشروح الأخرى للمعلّقة واستفادت منها حيث وجدت ذلك ضرورياً. وترى أن تلك الروايات وإن تضمنّت اختلافاً في بعض الألفاظ وإضافة لبعض الأبيات وإسقاطاً لأبيات أخرى وتحويراً في تسلسل بعضها الآخر، وبالأخص في القسم الأخير من المعلّقة، فإن تلك الاختلافات ليست جوهرية على مستوى البنية الصورية للمعلّقة ولا تؤدّي إلى تغيير جذري لطبيعة النتائج التي ينتهي إليها البحث والتحليل.

أنظر في ذلك: سليم الجندي، امرؤ القيس حياته وشعره، بيروت: دار الهجرة، 1987، ص197-203. د. ريتا عوض، بنية القصيدة الجاهلية: الصورة الشعرية لدى امرئ القيس، بيروت: دار الآداب، 1992، ص179- 181، ص184.



الى صفحة القصيدة »»


جميع الحقوق محفوظة © 2008-2020 - القرية الألكترونية في أبو ظبي